يوم ولدت " جوهرة"
قصص من الحياة
يوم ولدت " جوهرة"
في احد القصور الفخمة ولدت الفتاة الجميلة " ارجمان بانو بيحوم" ، واجتمع الناس في ساحة القصر الكبير يهنئون اهل البيت دون ان يعلم واحد منهم ان هذه الطفلة الصغيرة سيكون لها شأن بين بنات جنسها ، او انها ستصبح اشهر المغول الهنود علي مدي ثلاثة قرون من الزمان!.
وكانت قد مرت ايام قليلة علي مولد" بانو" حين رأي الناس خدم القصر وحراسه يروحون ويجيئون بما ينبيء بأن ضيفا" عظيما" سيزور القصر ، ولم يطل الانتظار ، فسرعان مارأوا علي الأفق موكب الملكة" نورجهان" زوجة الملك" جهان جير" ، تحيط بها حاشية من الوصيفات ، ورجال الدولة، وجنود الملك بملابسهم المبرقشة واسلحتهم اللامعة.
ودخلت الملكة الي قصر " عساف خان" شقيقها ووالد الطفلة الصغيرة ، فنظرت إليها في مهدها ، وادهشها ماللطفلة من جمال اخاذ ، فشهقت الملكة قائلة:ياإلهي ، انها تبدو في مهدها الصغير وكأنها ملكة متوجة علي عرش الإمبراطور ( أكبر) والتفتت الملكة حولها تبحث عن شيء ما ، ثم مالت علي وصيفتها ، وقالت بصوت مسموع : اخبري ولدي" جهان" انني وجدت له زوجة المستقبل في بيت خاله عساف!.
ومرت السنوات ، وكبرت الفتاة ، وتفتحت للحياة في اجواء القصور الملكية حيث مظاهر الفخامة والعظمة والترف، وعرفت الفتاة الكثير عن تاريخ اسرتها، قيل لها : إن الجد الأكبر " جلال الدين" كان رجلا عظيما قام بأعمال جليلة، فدانت لملكه مختلف الممالك المحيطة ، فأقام القصور والندائن العامرة ، وانشأ المدارس مع أنه كان اميا، وأسس إمبراطورية عظيمة، فلقب بالأكبر !.
وعرفت من اسرار الأسرة ان زوج عمتها الملك" جهان جير" الذي كان يحكم البلاد في ذلك الوقت رجل خليع مدمن للمخدرات مثل جده السكير " همايون".
وتفتحت انوثتها ، فأختلفت اهتماماتها : فتطلعت لمعرفة اسرار العلاقات النسائية لملوك الهنود المغوليين ، فعرفت ان الامبراطور ( اكبر) تزوج ٨٠٠ سيدة!. وانه كان يعتز بصفة خاصة ببعض نسائه من جنسيات مختلفة ، وكان يلبس الحلي والاقراط ، ويلعب مع نسائه لعبة" الإستغماية" في قاعة خاصة اعدها لذلك الغرض في قصر ( اكبر) " باجرا".
وعلمت ان عمتها الملكة" نورجهان" تسيطر علي زوجها الملك برغم انه سادي متوحش يعذب خدمه ، ويتلذذ وهو يري الذين يحكم عليهم بالموت.
عرفت الشابة الجميلة الكثير من التاريخ المعلن والقليل من الاسرار المخبوءة ، وادركت ان حياة القصور لها متاعبها وقيودها ايضا، ولم تكن تخلو الي فراشها حتي يتزاحم في افكارها خليط من كل ماسمعت ، وتتوارد الي خاطرها صور متباينة من الحذر والخوف والامل ، لكنها كانت تهدأ وتستريح حين يداعبها الامل في تحقيق ماسمعته عن عزم الملكة" نورجهان" ان تخطبها لإبنها الأمير .
اما الامير فقد كان شابا وسيما تغلب عليه الرقة والشاعرية، ويخلب لبه الفن والجمال، فقد ولد في احضان القصور المرمرية، وقضي طفولته يتنقل بين " اجرا " و" لاهور" و" فاتح بور سكري" ، وهي مدن عامرة ببدائع الفنون واعظم العمائر وانفس الحواهر واغرب الطيور .
وكثيرا ماكانت الفتاة الصغيرة تختلس النظر الي الامير وهو يداعب طواويسه وببغاواته الملونة، او يسابق الغزلان في حدائق القصر. وكم كان يتملكها الإعجاب به وهو يتنزه علي ظهر فيله الهندي الانيق المغطي بكسوة فاخرة مرصعة بالاحجار الكريمة والحواهر النفيسة.
ولم يكن يعكر صفو احلامها غير ماسمعته عن إخوة اميرها المحبوب : فقد ابلغتها واحدة من الخدم انها سمعتهم يتآمرون عليه، ويضمرون له الشر ، ولم يكن ذلك بمستبعد منهم، فقد امتلأت اجواء القصر بالكثير من قصص الغدر والوشاية بين افراد الاسرة حتي ان الملك " جيرجهان" نفسه حاول ان يقتل اباه ( اكبر) ويقصيه عن عرشه ولكنه فشل!.
خافت الفتاة علي حبيبها ، ولعلها ارسلت له سرا تدعوه للحذر ، او لعلها تسللت اليه خلسة ، لتنبهه الي ذلك، ولابد ان الامير حفظ لها هذا الفضل ، وتذكره بعد ذلك كثيرا.
مرت الايام واصبحت " بانو" شابه ناضجة، واصبح الامير رجلا وسيما ، ونظرت الملكة اليه في سعادة وفخر وحنين ، ثم ارسلت تستدعي كبير المنجمين ، لتسأله المشورة، ولتسترشد برأيه في تحديد اليوم السعيد والساعة المناسبة لعقد القران الملكي.
واجتمع الفلكي الهندي ومساعدوه في غرفة التنجيم بقصر ( اكبر) فرصدوا النجوم واستطلعوا الحظوظ وقرأوا المستقبل للعروسين ، وتحدد اليوم الموعود ، لتزف الاميرة الصغيرة " ارجمان بانو بيجوم" التي اطلق الامبراطور عليه اسم " ممتاز" الي حبيبها الأمير " جهان" ، فكان ذلك اليوم من اعجب ايام الزمان وابهج اعياد الشرق.
ففي ذلك اليوم سهرت المدينة حتي الصباح غارقة في الرقص والطرب سابحة في النور والسحر والجمال! وظهرت العروس في حلة من الضياء مرصعة بأفخر الماسات واثمن الاحجار الكريمة ، فخطف بريقها الابصار ، وحبس جمالها الانفاس، وكانت ليلة من ليالي الشرق سجلها الزمان في صدر التاريخ.
وفي احد قصور " اجرا" عاش الامير والاميرة ابهج سنوات العمر ، فتوطدت علاقتهما والتهب حبهما ، وتعاهدا علي الوفاء ماطالت ايامهما علي وجه الارض ولم يعكر صفوهما شيء من امور الدنيا إلا مااحساه بعد حين من جفوه في نفس الملك " جهان جير" ، فقد استدعي الامير عدة مرات ، وكلمه بلهجة شديدة ، وكانت تبدو علي وجهه علامات الشك وامارات الشر ، وكان الامير يحمل الي زوجته تخوفه الشديد من نوايا ابيه ، وحيرته البالغة في سبب تلك الجفوة المفاجئة.
وكانت الأميرة شديدة الحساسية بالغة الشفافية، فأدركت بقلبها النقي وعقلها الذكي ان وراء ذلك كله وشاية مدبرة خطط لها إخوة الأمير حقدا عليه، اذ كام الشعب يحبه ويري فيه اجدر الابناء بعرش الملك.
وكان الملك" جيهان جيرا " رجلا سكيرا خليعا" ، لاقلب له ولا عاطفة ، دائم الشك فيمن حوله خشية ان يطلع من بينهم من يناوئه علي العرش، فلما كبر ابنه ، واتجهت انظار الناس اليه كالملك المرتقب اشتعلت الغيرة في قلبه ، واقلقته الشكوك، وتذكر مافعله هو حين حاول ان يغتصب الملك من ابيه، وكيف دبر لذلك تدبيرا دقيقا ، وحاك المؤامرة الدنيئة دون ان يدري الأب من ذلك شيئا !! بل كاد يقتل اباه ، لينتزع العرش منه ، لكنه فشل واستسلم ، فعفا عنه ابوه في نبل وترفع!.
تذكر الملك" جيهان جير" كل ذلك ، فأرسل العيون وراء الأمير يتحسسون خطاه، وينقلون للملك همساته واحلامه، ووجد أخوة الأمير اللحظة المناسبة لإشعال الفتنة وإضرام النار، فوضع هو وإخوته في إذن جواسيس الملك حكايات ملفقة عن اتصال الامير بالجيش وتخطيطه للإطاحة بالملك او اتصاله بدول الاعداء، الي غير ذلك من الجرائم الفاحشة، وبلغ الملك بعض من هذه الحكايات المختلقة!.
ومرت فترة قصيرة من الزمان، واستيقظ الأمير يوما من احلامه ! ليجد بالباب رسل الملك يحملون اليه امره السامي بمغادرة العاصمة الي منفاه البعيد في احد القصور المهجورة حيث لا حاشية، ولااتباع ، ولاشعب، ولارعية !.
انخلع قلب الأمير الشاب، وجمدت الدماء الباردة في اطرافه، وعلم ان ليالي الاحلام الدافئة قد انتهت، واقبلت عليه السنون العجاف! وشق علي الأمير ان يترك زوجته الصغيرة ، ليرحل وحيدا ، كما اشفق علي نعومتها ورقتها ان تذهب معه الي حياة شظفة ، ومستقبل مجهول!.
ولكن الأميرة لم تترك له وقتا للحيرة، فقد عزمت عزما قاطعا ان تسبقه الي منفاه، وان تلقي معه حتفها اينما كان وحيثما حل .
وهناك في المنفي البعيد_انقطعت اسباب العيش ، وتضاءلت الآمال ، واتصلت الاحلام بواقع الحياة ، فما عاد الامير يقدم للاميرة وعوده البراقة ، ولم يعد يحدثها عن امجاد المستقبل الذي اصبح اليوم مجهولا.
وظل الأمير محطم القلب كسير النفس، علي حين بدت الأميرة اكثر وعيا واعمق نضجا فأقتربت الي الأمير تحنو عليه، وتحفف عنه وتحول ايام المنفي المتقشفة الي حياة رغدة، وتملأ عبوسة الواقع بإبتسامات الأمل المشرقة، ولم تزل تشد من ازره وتعضده حتي استرد ثقته بالحياة، واخذ يتدبر الأمر بعقل راجح ، ويسعي الي تبرئة نفسه ، حتي تحقق له ذلك بعد ثماني سنوات قضاها في منفاه الأليم!.
وعاد الأمير الي" اجرا" ومعه زوجته واولاده ، وكانت " ممتاز" قد ولدت للأمير اربعة عشر طفلا بين ذكور وإناث في ست عشرة سنة عاشتها معه ، قضت بعضها في حياة منعمة، وقضت اغلبها في مواجهة الصعاب لكنها كانت في هذه وتلك أنموذجا للزوجة الصالحة الوفية التي ساندت زوجها ، وافنت حياتها من اجل سعادته.
ودارت الايام ، ومات الملك، واضطربت امور القصر ، وكشفت الاحقاد عن وجهها الكئيب ، وظهرت النوايا الصفراء من وراء الأقنعة الباسمة، ووجد الأمير نفسه محاطا بمخالب اعدائه ، فأستل سيفه ، واقتحم الميدان ، وواجه المعركة الشرسة حتي استقرت المملكة بين يديه، ودانت لملكه الرقاب، واصبحت" ممتاز" ملكة علي العرش الي جوار حبيبها الامير .
ودخل الإمبراطور الجديد دائرة المتاعب الحقيقية: فقد تلوثت يداه بدماء اخوته الذين قتلهم جميعا ، ثم انصرف بعد ذلك لتأمين ملكه، ونشر سطوته ، فخاض المعارك الضارية ضد الخارجين والمتآمرين ، فضاع البيت السعيد في ضراوة السلطان!.
ولكن الملكة المخلصة لم تترك زوجها لدوامة السلطة، فقد وقفت الي جانبه ترعاه وتشد أزره ، بل تشاركه في اعباء منصبه كحاملة لأختام الدولة ومستشاره لكل شئونها !.
غير ان الجانب الرائع في حياتها كان ذلك القلب الواسع الكبير الذي فاض بالحب لا علي الزوج والابناء فقط، بل علي الشعب كله ، فإستطاعت بحبها ان تلطف من اعباء الحياة وان تجمع قلوب الناس حول زوجها وتقرب الشعب اليه بحاذبيتها الآسرة ، واخلاقها النبيلة ، وحمايتها للمظلومين ، ورعايتها للبائسين ! فأحبها الناس ، واستبشروا خيرا ، وقصد بابها كل ذي حاجة وانصرف كل واحد وهو يدعو لها بثبات ملكها وطول ايامها !.
ولكن آمال الناس لم تتحقق ، فقد ماتت الملكة ! كانت" ممتاز" قد جمعت في شخصها جمال الصورة ، وحسن الخلق ، وطيب النفس ، وعلو المكانة ، وسمو المقصد ، لكن جسدها لم يتحمل اعباء حبها الكبير ، كانت قد رافقت زوجها في كل سفراته ورحلاته وحروبه المتعددة وشاركته افراحه وآلامه ، بل آماله ومخاوفه!.
كانت قد بلغت من العمر ٣٦ سنة او تزيد قليلا حين سافرت مع زوجها في حملته لإخماد الثورة في احد الاقاليم، وكانت علي وشك ان تضع مولودتها الرابعة عشر ، وكانت الطريق وعرة محفوفة بالمهاطر والمتاعب فاجهدتها مسيرة الحرب وهي مثقلة بحملها ، فما إن بلغت مدينة " هاربر" بالهند الوسطي حتي وضعت مولودتها الاخيرة" جوهرة".
وبصوت خافت ضعيف نادت ابنتها الكبري " جهانارا" ، وأمسكت بيدها ، فوضعتها في يد ابيها وكأنها توصيها بأن ترعاه وتسهر علي راحته من بعدها !.
وما إن اوصت كلا منهما بالآخرحتي فاضت روحها السامية معلنة نهاية حياة قصيرة لزوجة فاضلة .
وأودع الملك الحزين جسد حبيبته امانة قبرا صغيرا بحدائق" زاندباد" ريثما يبني لها ضريحا لائقا ، وابتدأ الرجل ينشيء الضريح في مدينة" اجرا" لكنه لم يطق صبرا حتي يتم البناء ، فعاد الي " زانداباد" ليحمل رفات زوجته الي موقع قريب من بيتهما في مدفن مؤقت حتي يأنس بقربها !.
وعصف الحزن بقلبه فرفض ان يتعزي واعلن الحداد العام في كل انحاء المملكة، وحظر استعمال العطور او عزف الموسيقي او لبس الحلي والثياب الزاهية .
وانمل الملك شئون الدولة ، وانصرف الي بناء الضريح مجندا لذلك ٢٢ ألفا من الفنانين والمهندسين والعمال الذين أتموا العمل في ١٧ عاما مستخدمين فيها شحنات ضخمة من المرمر الأبيض من " جابور" والاحجار الثمينة من الهند وفارس وماوراء الهملايا .
وارتفع البناء ، ليصبح اسطورة من اساطير الفن ، وقصيدة من الأحلام! او كما قيل : هو حلم من المرمر الابيض المرصع بالحواهر النادرة .
وظلت خزينة الدولة مفتوحة علي مصراعيها طوال تلك السنين تصب مافيها في ذلك الغرض الواحد ، اذ لم يعد للملك مايشغله من امر الدنيا سوي" ضريح الحب!".
وكان لابد ان يقوم بأمر الدولة ملك آخر بعيد عن دائرة الحزن، فتصدي لذلك ابنه" اورنجزيب" الذي عزل اباه عن العرش ، فقضي ثماني سنوات حبيسا في ركن من البرج المثمن في قلعة " اجرا" الذي يطل علي القبر الابيض حيث ترقد الزوجة المحبوبة" ممتاز محل" متطلعا الي اليوم الذي يشاركها في مرقدها!.
وطالت لياليه الحزينة ، وجعلت زوجه تهيم حول الضريح الابيض الي ان جاء اليوم المكتوب من سنة ١٦٦٦ فأنضم الحبيبان في " تاج محل" اعجب صرح شيده " الحب".
يوم ولدت " جوهرة"
في احد القصور الفخمة ولدت الفتاة الجميلة " ارجمان بانو بيحوم" ، واجتمع الناس في ساحة القصر الكبير يهنئون اهل البيت دون ان يعلم واحد منهم ان هذه الطفلة الصغيرة سيكون لها شأن بين بنات جنسها ، او انها ستصبح اشهر المغول الهنود علي مدي ثلاثة قرون من الزمان!.
وكانت قد مرت ايام قليلة علي مولد" بانو" حين رأي الناس خدم القصر وحراسه يروحون ويجيئون بما ينبيء بأن ضيفا" عظيما" سيزور القصر ، ولم يطل الانتظار ، فسرعان مارأوا علي الأفق موكب الملكة" نورجهان" زوجة الملك" جهان جير" ، تحيط بها حاشية من الوصيفات ، ورجال الدولة، وجنود الملك بملابسهم المبرقشة واسلحتهم اللامعة.
ودخلت الملكة الي قصر " عساف خان" شقيقها ووالد الطفلة الصغيرة ، فنظرت إليها في مهدها ، وادهشها ماللطفلة من جمال اخاذ ، فشهقت الملكة قائلة:ياإلهي ، انها تبدو في مهدها الصغير وكأنها ملكة متوجة علي عرش الإمبراطور ( أكبر) والتفتت الملكة حولها تبحث عن شيء ما ، ثم مالت علي وصيفتها ، وقالت بصوت مسموع : اخبري ولدي" جهان" انني وجدت له زوجة المستقبل في بيت خاله عساف!.
ومرت السنوات ، وكبرت الفتاة ، وتفتحت للحياة في اجواء القصور الملكية حيث مظاهر الفخامة والعظمة والترف، وعرفت الفتاة الكثير عن تاريخ اسرتها، قيل لها : إن الجد الأكبر " جلال الدين" كان رجلا عظيما قام بأعمال جليلة، فدانت لملكه مختلف الممالك المحيطة ، فأقام القصور والندائن العامرة ، وانشأ المدارس مع أنه كان اميا، وأسس إمبراطورية عظيمة، فلقب بالأكبر !.
وعرفت من اسرار الأسرة ان زوج عمتها الملك" جهان جير" الذي كان يحكم البلاد في ذلك الوقت رجل خليع مدمن للمخدرات مثل جده السكير " همايون".
وتفتحت انوثتها ، فأختلفت اهتماماتها : فتطلعت لمعرفة اسرار العلاقات النسائية لملوك الهنود المغوليين ، فعرفت ان الامبراطور ( اكبر) تزوج ٨٠٠ سيدة!. وانه كان يعتز بصفة خاصة ببعض نسائه من جنسيات مختلفة ، وكان يلبس الحلي والاقراط ، ويلعب مع نسائه لعبة" الإستغماية" في قاعة خاصة اعدها لذلك الغرض في قصر ( اكبر) " باجرا".
وعلمت ان عمتها الملكة" نورجهان" تسيطر علي زوجها الملك برغم انه سادي متوحش يعذب خدمه ، ويتلذذ وهو يري الذين يحكم عليهم بالموت.
عرفت الشابة الجميلة الكثير من التاريخ المعلن والقليل من الاسرار المخبوءة ، وادركت ان حياة القصور لها متاعبها وقيودها ايضا، ولم تكن تخلو الي فراشها حتي يتزاحم في افكارها خليط من كل ماسمعت ، وتتوارد الي خاطرها صور متباينة من الحذر والخوف والامل ، لكنها كانت تهدأ وتستريح حين يداعبها الامل في تحقيق ماسمعته عن عزم الملكة" نورجهان" ان تخطبها لإبنها الأمير .
اما الامير فقد كان شابا وسيما تغلب عليه الرقة والشاعرية، ويخلب لبه الفن والجمال، فقد ولد في احضان القصور المرمرية، وقضي طفولته يتنقل بين " اجرا " و" لاهور" و" فاتح بور سكري" ، وهي مدن عامرة ببدائع الفنون واعظم العمائر وانفس الحواهر واغرب الطيور .
وكثيرا ماكانت الفتاة الصغيرة تختلس النظر الي الامير وهو يداعب طواويسه وببغاواته الملونة، او يسابق الغزلان في حدائق القصر. وكم كان يتملكها الإعجاب به وهو يتنزه علي ظهر فيله الهندي الانيق المغطي بكسوة فاخرة مرصعة بالاحجار الكريمة والحواهر النفيسة.
ولم يكن يعكر صفو احلامها غير ماسمعته عن إخوة اميرها المحبوب : فقد ابلغتها واحدة من الخدم انها سمعتهم يتآمرون عليه، ويضمرون له الشر ، ولم يكن ذلك بمستبعد منهم، فقد امتلأت اجواء القصر بالكثير من قصص الغدر والوشاية بين افراد الاسرة حتي ان الملك " جيرجهان" نفسه حاول ان يقتل اباه ( اكبر) ويقصيه عن عرشه ولكنه فشل!.
خافت الفتاة علي حبيبها ، ولعلها ارسلت له سرا تدعوه للحذر ، او لعلها تسللت اليه خلسة ، لتنبهه الي ذلك، ولابد ان الامير حفظ لها هذا الفضل ، وتذكره بعد ذلك كثيرا.
مرت الايام واصبحت " بانو" شابه ناضجة، واصبح الامير رجلا وسيما ، ونظرت الملكة اليه في سعادة وفخر وحنين ، ثم ارسلت تستدعي كبير المنجمين ، لتسأله المشورة، ولتسترشد برأيه في تحديد اليوم السعيد والساعة المناسبة لعقد القران الملكي.
واجتمع الفلكي الهندي ومساعدوه في غرفة التنجيم بقصر ( اكبر) فرصدوا النجوم واستطلعوا الحظوظ وقرأوا المستقبل للعروسين ، وتحدد اليوم الموعود ، لتزف الاميرة الصغيرة " ارجمان بانو بيجوم" التي اطلق الامبراطور عليه اسم " ممتاز" الي حبيبها الأمير " جهان" ، فكان ذلك اليوم من اعجب ايام الزمان وابهج اعياد الشرق.
ففي ذلك اليوم سهرت المدينة حتي الصباح غارقة في الرقص والطرب سابحة في النور والسحر والجمال! وظهرت العروس في حلة من الضياء مرصعة بأفخر الماسات واثمن الاحجار الكريمة ، فخطف بريقها الابصار ، وحبس جمالها الانفاس، وكانت ليلة من ليالي الشرق سجلها الزمان في صدر التاريخ.
وفي احد قصور " اجرا" عاش الامير والاميرة ابهج سنوات العمر ، فتوطدت علاقتهما والتهب حبهما ، وتعاهدا علي الوفاء ماطالت ايامهما علي وجه الارض ولم يعكر صفوهما شيء من امور الدنيا إلا مااحساه بعد حين من جفوه في نفس الملك " جهان جير" ، فقد استدعي الامير عدة مرات ، وكلمه بلهجة شديدة ، وكانت تبدو علي وجهه علامات الشك وامارات الشر ، وكان الامير يحمل الي زوجته تخوفه الشديد من نوايا ابيه ، وحيرته البالغة في سبب تلك الجفوة المفاجئة.
وكانت الأميرة شديدة الحساسية بالغة الشفافية، فأدركت بقلبها النقي وعقلها الذكي ان وراء ذلك كله وشاية مدبرة خطط لها إخوة الأمير حقدا عليه، اذ كام الشعب يحبه ويري فيه اجدر الابناء بعرش الملك.
وكان الملك" جيهان جيرا " رجلا سكيرا خليعا" ، لاقلب له ولا عاطفة ، دائم الشك فيمن حوله خشية ان يطلع من بينهم من يناوئه علي العرش، فلما كبر ابنه ، واتجهت انظار الناس اليه كالملك المرتقب اشتعلت الغيرة في قلبه ، واقلقته الشكوك، وتذكر مافعله هو حين حاول ان يغتصب الملك من ابيه، وكيف دبر لذلك تدبيرا دقيقا ، وحاك المؤامرة الدنيئة دون ان يدري الأب من ذلك شيئا !! بل كاد يقتل اباه ، لينتزع العرش منه ، لكنه فشل واستسلم ، فعفا عنه ابوه في نبل وترفع!.
تذكر الملك" جيهان جير" كل ذلك ، فأرسل العيون وراء الأمير يتحسسون خطاه، وينقلون للملك همساته واحلامه، ووجد أخوة الأمير اللحظة المناسبة لإشعال الفتنة وإضرام النار، فوضع هو وإخوته في إذن جواسيس الملك حكايات ملفقة عن اتصال الامير بالجيش وتخطيطه للإطاحة بالملك او اتصاله بدول الاعداء، الي غير ذلك من الجرائم الفاحشة، وبلغ الملك بعض من هذه الحكايات المختلقة!.
ومرت فترة قصيرة من الزمان، واستيقظ الأمير يوما من احلامه ! ليجد بالباب رسل الملك يحملون اليه امره السامي بمغادرة العاصمة الي منفاه البعيد في احد القصور المهجورة حيث لا حاشية، ولااتباع ، ولاشعب، ولارعية !.
انخلع قلب الأمير الشاب، وجمدت الدماء الباردة في اطرافه، وعلم ان ليالي الاحلام الدافئة قد انتهت، واقبلت عليه السنون العجاف! وشق علي الأمير ان يترك زوجته الصغيرة ، ليرحل وحيدا ، كما اشفق علي نعومتها ورقتها ان تذهب معه الي حياة شظفة ، ومستقبل مجهول!.
ولكن الأميرة لم تترك له وقتا للحيرة، فقد عزمت عزما قاطعا ان تسبقه الي منفاه، وان تلقي معه حتفها اينما كان وحيثما حل .
وهناك في المنفي البعيد_انقطعت اسباب العيش ، وتضاءلت الآمال ، واتصلت الاحلام بواقع الحياة ، فما عاد الامير يقدم للاميرة وعوده البراقة ، ولم يعد يحدثها عن امجاد المستقبل الذي اصبح اليوم مجهولا.
وظل الأمير محطم القلب كسير النفس، علي حين بدت الأميرة اكثر وعيا واعمق نضجا فأقتربت الي الأمير تحنو عليه، وتحفف عنه وتحول ايام المنفي المتقشفة الي حياة رغدة، وتملأ عبوسة الواقع بإبتسامات الأمل المشرقة، ولم تزل تشد من ازره وتعضده حتي استرد ثقته بالحياة، واخذ يتدبر الأمر بعقل راجح ، ويسعي الي تبرئة نفسه ، حتي تحقق له ذلك بعد ثماني سنوات قضاها في منفاه الأليم!.
وعاد الأمير الي" اجرا" ومعه زوجته واولاده ، وكانت " ممتاز" قد ولدت للأمير اربعة عشر طفلا بين ذكور وإناث في ست عشرة سنة عاشتها معه ، قضت بعضها في حياة منعمة، وقضت اغلبها في مواجهة الصعاب لكنها كانت في هذه وتلك أنموذجا للزوجة الصالحة الوفية التي ساندت زوجها ، وافنت حياتها من اجل سعادته.
ودارت الايام ، ومات الملك، واضطربت امور القصر ، وكشفت الاحقاد عن وجهها الكئيب ، وظهرت النوايا الصفراء من وراء الأقنعة الباسمة، ووجد الأمير نفسه محاطا بمخالب اعدائه ، فأستل سيفه ، واقتحم الميدان ، وواجه المعركة الشرسة حتي استقرت المملكة بين يديه، ودانت لملكه الرقاب، واصبحت" ممتاز" ملكة علي العرش الي جوار حبيبها الامير .
ودخل الإمبراطور الجديد دائرة المتاعب الحقيقية: فقد تلوثت يداه بدماء اخوته الذين قتلهم جميعا ، ثم انصرف بعد ذلك لتأمين ملكه، ونشر سطوته ، فخاض المعارك الضارية ضد الخارجين والمتآمرين ، فضاع البيت السعيد في ضراوة السلطان!.
ولكن الملكة المخلصة لم تترك زوجها لدوامة السلطة، فقد وقفت الي جانبه ترعاه وتشد أزره ، بل تشاركه في اعباء منصبه كحاملة لأختام الدولة ومستشاره لكل شئونها !.
غير ان الجانب الرائع في حياتها كان ذلك القلب الواسع الكبير الذي فاض بالحب لا علي الزوج والابناء فقط، بل علي الشعب كله ، فإستطاعت بحبها ان تلطف من اعباء الحياة وان تجمع قلوب الناس حول زوجها وتقرب الشعب اليه بحاذبيتها الآسرة ، واخلاقها النبيلة ، وحمايتها للمظلومين ، ورعايتها للبائسين ! فأحبها الناس ، واستبشروا خيرا ، وقصد بابها كل ذي حاجة وانصرف كل واحد وهو يدعو لها بثبات ملكها وطول ايامها !.
ولكن آمال الناس لم تتحقق ، فقد ماتت الملكة ! كانت" ممتاز" قد جمعت في شخصها جمال الصورة ، وحسن الخلق ، وطيب النفس ، وعلو المكانة ، وسمو المقصد ، لكن جسدها لم يتحمل اعباء حبها الكبير ، كانت قد رافقت زوجها في كل سفراته ورحلاته وحروبه المتعددة وشاركته افراحه وآلامه ، بل آماله ومخاوفه!.
كانت قد بلغت من العمر ٣٦ سنة او تزيد قليلا حين سافرت مع زوجها في حملته لإخماد الثورة في احد الاقاليم، وكانت علي وشك ان تضع مولودتها الرابعة عشر ، وكانت الطريق وعرة محفوفة بالمهاطر والمتاعب فاجهدتها مسيرة الحرب وهي مثقلة بحملها ، فما إن بلغت مدينة " هاربر" بالهند الوسطي حتي وضعت مولودتها الاخيرة" جوهرة".
وبصوت خافت ضعيف نادت ابنتها الكبري " جهانارا" ، وأمسكت بيدها ، فوضعتها في يد ابيها وكأنها توصيها بأن ترعاه وتسهر علي راحته من بعدها !.
وما إن اوصت كلا منهما بالآخرحتي فاضت روحها السامية معلنة نهاية حياة قصيرة لزوجة فاضلة .
وأودع الملك الحزين جسد حبيبته امانة قبرا صغيرا بحدائق" زاندباد" ريثما يبني لها ضريحا لائقا ، وابتدأ الرجل ينشيء الضريح في مدينة" اجرا" لكنه لم يطق صبرا حتي يتم البناء ، فعاد الي " زانداباد" ليحمل رفات زوجته الي موقع قريب من بيتهما في مدفن مؤقت حتي يأنس بقربها !.
وعصف الحزن بقلبه فرفض ان يتعزي واعلن الحداد العام في كل انحاء المملكة، وحظر استعمال العطور او عزف الموسيقي او لبس الحلي والثياب الزاهية .
وانمل الملك شئون الدولة ، وانصرف الي بناء الضريح مجندا لذلك ٢٢ ألفا من الفنانين والمهندسين والعمال الذين أتموا العمل في ١٧ عاما مستخدمين فيها شحنات ضخمة من المرمر الأبيض من " جابور" والاحجار الثمينة من الهند وفارس وماوراء الهملايا .
وارتفع البناء ، ليصبح اسطورة من اساطير الفن ، وقصيدة من الأحلام! او كما قيل : هو حلم من المرمر الابيض المرصع بالحواهر النادرة .
وظلت خزينة الدولة مفتوحة علي مصراعيها طوال تلك السنين تصب مافيها في ذلك الغرض الواحد ، اذ لم يعد للملك مايشغله من امر الدنيا سوي" ضريح الحب!".
وكان لابد ان يقوم بأمر الدولة ملك آخر بعيد عن دائرة الحزن، فتصدي لذلك ابنه" اورنجزيب" الذي عزل اباه عن العرش ، فقضي ثماني سنوات حبيسا في ركن من البرج المثمن في قلعة " اجرا" الذي يطل علي القبر الابيض حيث ترقد الزوجة المحبوبة" ممتاز محل" متطلعا الي اليوم الذي يشاركها في مرقدها!.
وطالت لياليه الحزينة ، وجعلت زوجه تهيم حول الضريح الابيض الي ان جاء اليوم المكتوب من سنة ١٦٦٦ فأنضم الحبيبان في " تاج محل" اعجب صرح شيده " الحب".
تعليقات
إرسال تعليق